Title sheet 3.png

موسيقى سيد درويش

 

 

تقديــــــم

فى معظم ما كتب ونشر عن سيد درويش اهنم الكتاب بتأصيل حياته والأحداث التى مر بها أكثر من اهتمامهم بموسيقاه ، ويرجع ذلك إلى أن معظم من أرخوا لسيد درويش هم من غير الموسيقيين ، أما الشأن الفنى فلم يحظ بالاهتمام الكافى ، ونجد فى الفيلم السينمائى الوحيد الذى أنتج عن سيد درويش ضحالة تامة فى القصة والسيناريو والإخراج ، بل وإساءة أيضا إلى شخص الفنان المبدع والثائر على الفساد والاستعباد ، العاشق للوطن وللحرية ، والغيور على فنه والمحترم له ، والمجدد بل الباعث لنهضة فنية استمرت لعشرات السنين وألهمت أجيال كثيرة بعده ، ورغم أن فنانا مثله يمكن أن نرى له عشرات الأفلام العظيمة دون أن يتكرر فيها مشهد واحد ، ويكفيه ما قدمه من أوبريتات رائعة ، أنتج بعضها على نفقته الخاصة

ومما يدعو للدهشة أنه رغم اعتراف الجميع ، من أهل الفن ومن خارجه ، بفضل سيد درويش إلا أننا لا نرى أيا من أعماله تدرس أو تبحث فى معاهد الموسيقى ، ومازالت المناهج الموسيقية الشرقية فى مصر رائدة الفنون تعتمد على التراث التركى فى معظمها

وربما يقول قائل أن سيد درويش لم يترك ثروة أكاديمية يمكن أن تعين فى صياغة مناهج التعليم والتدريب ، لكن الشيخ سيد ترك أكبر ثروة فنية فى تاريخ الموسيقى العربية على الإطلاق ، ليس بالكم بل بالكيف ، إذ أن كل لحن وكل قطعة تستحق الدراسة والتأمل

فى أدواره العشرة نجد كل دور من مقام مختلف عرض فيه سيد درويش الكيفية المثلى لمعالجة نغمات هذا المقام

وفى ألحان رواياته هناك أكثر من 200 لحن  لم تتكرر فيها جملة واحدة ، وفيها من اختلاف المواقف ما يكفى لعرض كافة حالات الشعور الإنسانى وكيفية التعبير عنها

أضاف مقاما موسيقيا جديدا (!) للموسيقى الشرقية أسماه الزنجران أبدع منه أحد أدواره ، ولحن منها الأساتذة اللاحقون

شرع فى تأليف كتاب موسيقى يضم نوت ألحانه

ومع انشغاله بتلك المهمة التاريخية لم ينس أن يكتب مقالاته فى الثقافة الموسيقية للصحف والمجلات يعلم وينور ، وكان يوقع بإمضاء خادم الموسيقى سيد درويش

ولكن لم يمهله القدر أكثر من ست سنوات هى كل عمره الفنى ، فقد بدأ فى سن 25 ورحل فى سن 31 ، ولم يكن ليتسنى له التفرغ لعملية أكاديمية وهو مشغول تماما بإنتاج أعظم ما أنتجته مصر من فن فى تاريخها الطويل

لقد قام سيد درويش فى مصر بما قام به بيتهوفن فى ألمانيا ، حيث صعد الاثنان ، كل بموسيقاه ، إلى القمة ، وفى حين مهد لظهور بيتهوفن عمالقة مثل باخ وهايدن وموتسارت فقد ظهر سيد درويش بانقلاب كبير لم يسبقه تمهيد

امتد تأثير سيد درويش إلى كامل المنطقة العربية عن طريق من ساروا على نهجه بعد رحيله ، وقد عاصر سيد درويش أواخر العصر الرومانسى الأوربى الذى شهد آخر مؤلف عام 1922 وهو إدوارد جريج النرويجى ، وترامت إلى مسامعه أعمال رواد الفن الموسيقى الأوربى حتى فيردى الإيطالى الذى صاغ أوبرا عايدة المصرية لحفل افتتاح قناة السويس عام 1869، وكان رغم إعجابه بأعمالهم لا يقلدهم , وإنما كانت موسيقاه معبرة تماما عن إحساس ومزاج الشعب المصرى الذى حرم طويلا من ممارسة الفنون الراقية بفضل الاستعمار التركى العثمانى الذى احتكر فن الموسيقى وصبغها بصبغته وقصر ممارستها على الطبقات الإقطاعية وأفراد الأسرالمالكة ، وقد تشابه دوره هذا مع دور بيتهوفن حيث وصف كل منهما بأنه خلص موسيقى شعبه من الآثار الأجنبية وانتمى إلى موسيقى أمته مباشرة ثم وصل بها إلى أعلى المراتب

وتنوع إنتاج سيد درويش ليشمل أنماطا عديدة من التأليف الموسيقى حاول بها إثبات أن كل شيئ مكتوب يمكن أن يلحن ويغنى مامدامت هناك فكرة ورأى وموقف وإحساس ، حتى الأنماط الأقدم استعملها فى أساليب جديدة ، وما يهمنا هنا هو أن موسيقى هذا الفنان قد احتوت على قدر عال من القيم الفنية يجعلها جديرة بالدراسة والتحليل والتأصيل والتنميط ، ونحن نشعر بينما نستمع إلى ألحانه أننا نستمع إلى أصول وليس إلى فروع أو تقليد

عندما سألت شيخ الملحنين الموسيقار السكندرى محمد عفيفى ، وهو أكبر حافظ لتراث سيد درويش ، عن بدايات اهتمامه بالفن أجاب: لقد أعجبت بألحان محمد عبد الوهاب كثيرا ، ولكن حينما استمعت إلى أعمال سيد درويش أدركت أننى أستمع إلى الأصل!

وسنحاول أن نعرض هنا أمثلة عن التحولات التى أحدثها سيد درويش فى الموسيقى تحت عنوان خصائص فن سيد درويش

 

خصائص فن سيد درويش

1 -  اختيار الموضوع كمدخل للتعبير الموسيقى

2 -  مدرسة سيد درويش الموسيقية

 

1 -  اختيار الموضوع كمدخل للتعبير الموسيقى

 

إن الموضوعات التى طرقها سيد درويش لم تكن لتخطر على بال أحد فى ذلك الوقت ، ففى عصر اقتصرت فيه وظيفة الفن على التسلية ، والموضوع الفنى على العشق والغرام يقتفى سيد درويش شعور الإنسان فى مجال وحال بآلامه وأحلامه ويخاطب الجماعة كما يخاطب الفرد ، واستطاع بعد مئات من السنين أن ينتقل بالفن من حيز التطريب الضيق إلى آفاق التعبير الرحبة ويخطو خطوات كبيرة نحو عالم الإنسانية الواسع ، ويجعل من هذه الرسالة هدفا لحياته

 

لحن الصنايعية - الحلوة دى

هذا اللحن على سبيل المثال ومطلعه " الحلوة دى قامت تعجن فى البدرية .. والديك بيدن كوكو كوكو فى الفجرية .."

يبدأ بصورة شعبية بسيطة هى مدخل إلى قضية كبرى ، العمال والصنايعية والصناعة ورأس المال ، موضوع غير قابل للغناء أصلا ، وينتقل من غناء فئة من العمال إلى ، وهذا هو الأهم ، ربط هذه الصورة بحال البلد كلها ..

كان باستطاعة سيد درويش أن يستمر كما فعل أسلافه من الفنانين فى طرق نفس الموضوعات والبعد عن الصور البائسة والمؤلمة لشعب بأكمله وليس لمجرد فرد لسعه الغرام ، إنه يتعرض لقضية سياسية فى المقام الأول ، ولم تكن هذه مهمة الفن فى عصره ، كان الفن للمتعة فقط ، ثم هو يجعل من هذه الطقطوقة البسيطة والمليئة بالشجن فى نفس الوقت قطعة فنية خالدة تحفظها الأجيال

نأتى لبعض التفاصيل

من هى الحلوة التى يريد سيد درويش أن يتغنى بها؟ إنها امرأة بسيطة.. تعد خبز الصباح لأسرتها فىوسط شعبى بين عامة الناس الذين يربون الدواجن فى منازلهم المتواضعة

يظهر وسطها الإنسانى فى الجملة التالية على لسان مجموعة من الصنايعية تخرج فى الصباح الباكر فى رحلة كل يوم للبحث عن الرزق تقول " ياللا بنا على باب الله .. باصنايعبة .. يجعل صباحك صباح الخير يااسطى عطية"

ما هو الجميل فى المرأة الكادحة التى تخبز خبز الصباح؟ ، إن هدف سيد درويش ليس الغزل هنا ، إن نصب عينيه أمر أهم  ، الشعب الذى لم يكن يمثل على أى صعيد اجتماعى فى الطبقات العليا التى تستمتع بالفنون ، حتى نساؤه لم تحظ بالغزل إلا فى التراث الشعبى الممزوج بطمى النيل..  ثم إن الفن الراقى كان حكرا على صالونات الأتراك والمستتركين من أتباع الدولة العثمانية ، ولم يكن لبسطاء مصر غير الطمر التام فى طينها وترابها

إنه يتطرق تحدث عن بؤس فئة من الناس تشكو همومها إلى رب العالمين ، لكن فئات أخرى عديدة من الشعب كانت تشعر بنفس الشعور ، وتعانى من نفس الإحباط ، فسرت أغنيته فى نفوس الناس وكأنها تتحدث عن نفسها

" طلع النهار فتاح يا عليم .. والجيب مافيهشى ولا مليم"

مين فى اليومين دول شاف تلطيم .. زى الصنايعية المظاليم

ثم يتصاعد كلاما ولحنا إلى صيحة الصنايعية

" الصبر أمره طال .. وايش بعد وقف الحال "

ثم يطلق دعوة إيمانية خالصة

ياللى معاك المال .. برضه الفقير له رب كريم

وينتقل إلى النظر حوله ، للأمم التى تقدمت ، ويبحث فى سر تقدمها

" أولاد أوربا ما بيناموش .. عن الصنايع مايونوش"

ويتساءل لماذا نحن مهمومون بينما لدينا كل المواهب

" سبع صنايع فى ايدينا .. والهم جاير علينا " 

ثم يوجه اللوم ماشرة إلى أغنياء القوم

ياما شكينا وبكينا .. يا أغنيا ليه ما تساعدوش

وليس ما تغنى به سيد درويش من نظمه ، وإن كان له  فى ذلك الكثير ، ولكن اختياره للموضوع ، وهو ملحن ، قد أدخل الفن إلى عالم جديد

وهذه هى المفاجأة .. إنه موضوع جديد ، وجاد ، وجرئ ، ويحمل معه آفاقا جديدة من التعبير عن أحوال بسطاء الناس ، الصنايعية هنا على سبيل المثال ، الذين لم يكونوا من قبل فى أجندة الفن ، ولا فى أى أجندة .. وتجاهل تام لموسيقى الصالون الحاكم

كانت مفاجأة سارة للشعب المصرى ، لكنها لم تكن كذلك لا للقصر الملكى ولا للاحتلال الأجنبى

مثال آخر .. يجد الشيخ سيد كلاما منشورا فى إحدى الصحف لبديع خيرى ، " قوم يامصرى مصر أمك بتناديك .. خد بناصرى نصرى دين واجب عليك" ، يعجبه الكلام فيأخذ فى تلحينه ونشره كنشيد سهل الغناء يثير حماس الناس ووطنيتهم

والأمثلة غير ذلك كثيرة

2 -  مدرسة سيد درويش الموسيقية

ا- فى الغنـــاء

ب- المدرسة التعبيرية فى الموسيقى

 

ج- فى التأليف الموسـيقى والبنـــاء الفنى 

طرق سيد درويش منهجا جديدا فى التلحين اعتمد فيه أساليب متطورة كما اهتم بتأصيل النغمات المحلية ووضع نصب عينيه مسألة هامة وهى أن تعبر الموسيقى عن الموضوع والمحتوى الكلامى بحيث تنطق بأفضل شعور يمكن أن يتولد عند سماع الجمل والكلمات ، وقد تحرر من أجل ذلك من كل قيود الماضى التى كبلت الحركة الموسيقية فى قوالب جامدة وأوجد بذلك لأول مرة المدرسة التعبيرية فى الموسيقى 

ولم يكن الطريق سهلا ، فالجديد دائما محل ريبة وشك وعدم ارتياح ، وقد قوبل سيد درويش فى أكثر من مناسبة بالرفض والاستنكار وفشل فى إقناع جمهور الحفلات بفنه فى مراحله الأولى ، لكنه فطن إلى أن صوته لم يكن لينافس أصحاب الحناجر الذهبية فى ذلك الوقت فامتنع عن تقديم أعماله بنفسه ، وشجعه أحد أصحاب تلك الحناجر وهو الشيخ سلامة حجازى سلطان الطرب وقتها على المضى قدما فى التلحين دون الغناء ، وعرض عليه تلحين أول أوبريت له لفرقة جورج أبيض التمثيلية وهى فيروز شاه ، اقتناعا بموهبته وقدراته

وحتى يعرض إمكانياته الفنية قام سيد درويش بتلحين الدور ، وهو أصعب القوالب الغنائية السائدة ، ولحن عشرة أدوار كل منها من مقام موسيقى مختلف ، فكانت أفضل عشرة أدوار فى تاريخ الموسيقى العربية ، وهو بذلك قد أثبت تفوق موهبته على جميع ملحنى عصره فى مجالهم وميدانهم ، وسطع نجمه عاليا كأفضل من لحن الدور ، وبانتهائه من هذه المهمة خلا  له الطريق ليقدم ما يشاء دون أدنى انتقاد ، ثم تنافست الفرق المسرحية على إنتاجه بعد أن تبين لها جماهيرية ألحانه وتأثير وقعها البالغ على النفوس

 

وعنـد مقـارنة ألحان سيد درويش بما قبلها نجد عناصر قد اختفت وحلت مكانها عناصر جديدة أصبحت هى السمات الأساسية للألحان من بعده ، وهو بذلك قد وضع أساليب جديدة فى التلحين

ا- فى الغنـــاء

الغناء قبل سيد درويش

كان المطرب يبدأ فى الغناء بعد سلسلة من التمهيدات الموسيقية تبدأ عادة بأحد القوالب الموسيقية التركية وهو " السماعى"

والسماعى يتكون عادة من 4 فقرات أو حركات تسمى كل منها خانة ، ويتكرر بينها جملة موسيقية هى " التسليم" وينتهى بها أيضا

ولكل سماعى نغمة أساسية أو مقام موسيقى أساسى وتتنوع الحركات الأربع بين مقامات قريبة ثم تعود إليه فى التسليم

وبانتهاء تقديم السماعى الذى يستغرق حوالى 10 دقائق يقوم كل عازف بأداء بعض " التقاسيم " المنفردة على آلته بالتناوب مع بقية العازفين ومن نفس المقام الموسيقى والنغمات التى مهد لها السماعى لمدة 10 دقائق أخرى ، ثم يبدأ المطرب فى التمهيد لنفسه يأداء " موال" من 10 دقائق ثالثة يتصاعد فى حرارته ثم ينتهى " بقفلة " حارة يشد يها انتباه الجمهور وإعجابه وعندها يدخل فى الدور أو القصيدة فى 30 – 45 دقيقة ، وبهذا يكون قد أتم وصلة غنائية ، وكلمة وصلة أتت من إيصال أو ربط عدة فقرات ببعضها ترتكز على نفس المقـام وإن تنوعت فى الداخل ، أى أن الوصلة تستغرق بين 60 و 90 دقيقة

الغناء عند سيد درويش

تخلص سيد درويش من كثير من الطقوس الموسيقية التى صحبت الغناء فى عصره ، وانتقل إلى أسلوب الدخول مباشرة فى الموضوع ، وإذا ضربنا مثالا بالسفر إلى هدف معين يمكن الوصول إليه بعدة طرق فقد اختار سيد درويش أقصر وأسرع وأسهل الطرق للوصول إلى قلب المستمع وذهنه ، ولا شك أن ذلك يتطلب براعة خاصة لم تتوفر لغيره وقد كمنت موهبة سيد درويش الأساسية فى هذه القدرة التى مكنته من الوصول للناس بتلقائية واضحة

فى هذا الجو فاجأ سيد درويش الناس بأغانى كاملة مدتها بين 60 و90 ثانية! وهى من الجاذبية بحيث تلتصق بذاكرة المستمع فيرددها تلقائيا بعد سماعها ولو لمرة واحدة! بل ويتذكرها الجمهور لعشرات السنين ، وأمثلة ذلك كثيرة ومنها زورونى كل سنة مرة التى جابت شهرتها الآفاق بينما توارت أدوار العناتيل وراء الزمن!

ولأول مرة منذ عهود طويلة لم يعد الغناء مقصورا على المطرب الفذ وإنما غنت الجماهير ألحانه بسهولة ، ونستطيع القول بأن الانقلاب الذى أحدثه سيد دروبش فى الموسيقى لم يكن فى الأوساط المحترفة فقط لكنه غير المتلقى أيضا وقد خلق جمهورا جديدا هو غالبية الشعب وخلق من الفن الشعبى فنا راقيا أخرج به الفن من الصالونات إلى المسارح والشوارع والبيوت والمقاهى وردد الناس أناشيده فى المظاهرات 

وكون هذه الموسيقى الجديدة قد اتجهت لعامة الناس لم يمنعها من الاحتفاظ بقيم فنبة عالية تثير إعجاب الموسيقيين أنفسهم ، وتجعلهم يتمنون لو أنهم تمتعوا بإمكانيات الشيخ سيد وقدموا مثل ما قدم ، وهذا فى الواقع هو سر وجود روح سيد درويش الموسيقية فى أعمال العديد من الموسيقيين اللاحقين ، بل وجود جمل كاملة من أعماله فى أعمال غيره واضحة كالشمس

 

ب - المدرسة التعبيرية فى الموسيقى

 

التعبير فى الموسيقى كاصطلاح غير التعبير بالموسيقى

يندرج تحت التعبير بمفهومه العام أى إحساس يتولد لدى السامع نتيجة سماعه لأنغام معينة ، وهناك مقامات فى الموسيقى الشرقية معروفة بتعبيرها عن الحزن مثل الصبا والحجاز ومشتقاتهما ، وهى تحتوى على هذه القيمة سواء صحب الموسيقى كلمات أو لا

 

ويختلف التعبير بالموسيقى اصطلاحا فى أنه لا بد من وجود معنى مسبق قبل وجود الموسيقى التى يراد لها التعبير بمادتها عن ذلك المعنى ، وبعبارة أوجز هو التعبير عن الكلمات باللحن ، فإن لم تكن الكلمات شعرا فموقفا مكتوبا فى أى صيغة حتى وإن كانت مجرد عنوان لقطعة موسيقية

وهذا النوع الأخير هو ما قصده سيد درويش وأراد العمل به ، وقد أجاد فى ذلك بل هو الذى اخترع هذه المسألة

واتبع سيد درويش فى سبيل ذلك أسلوبين ناجحين هما:

1-  وحدة العمل استخدام الجو العام للحن من ناحية إيقاعه وتركيب نغماته فى التعبير عن المعنى العام للكلمات أو الموقف

2-  التصوير المباشر استخدام جمل موسيقية معينة فى التعبير عن الجمل اللغوبة أو الكلمات المفردة

وقد استخدم سيد درويش الأسلوبين منفصلين وممتزجين 

لنأخذ مثالا على ذلك ولو أن ألحان الشيخ سيد كلها كذلك

لحن الشيالين – تحليــل:

المـذهـــــــب:

الكلمات المكتوبة لهذا اللحن تقول فى مطلعها :

شــد الحـــزام على وسطك غيره ما يفيدك .. لابد عن يوم برضه ويعدلها سيدك

وان كان شيل الحمول على ظهرك يكيدك .. أهون عليك يا حر من مــــدة إيدك

 

لندقق معا فى هذين البيتين لغويا

فى البيت الأول تقرير خبرى من شطرتين يلخص واقع الحال والشعور البائس لدى تلك الفئة من الناس مع الأمل فى تغيره

فى البيت الثانى نجد تعبيرا شرطيا فى الشطرة الأولى يعقبه جواب الشرط فى الثانية وهو جواب نهائى لا يقبل نقض ولا إبرام

 

ماذا فعل سيد دروبش مع هذه الكلمات؟

أولا اختار المقام الموسيقى المناسب للتعبير عن الجو السائد وهو مقام الحجاز

ثانيا اختار الإيقاع السريع للدلالة على الحركة الدائبة وهو إيقاع شعبى بسيط يستطيع الشيالين وما فى حكمهم أداءه

ثالثا لا وقت للمقدمات الموسيقية فهى ليست ذات أهمية هنا ولا مجال للاستماع إلى موسيقى تمهيدية بينما القطار على وشك التحرك أو توقف بالكاد داخل المحطة وبدأ الركاب فى النزول والتزاحم ، الخلاصة يدخل فى الموضوع مباشرة

رابعا استعمل للبيت الأول التقريرى جملة موسيقية مستقرة أى انتهت فى لحظات على درجة الركوز فى المقام الأساسى

خامسا بانتقال الكلام إلى أسلوب الشرط فى الشطرة الأولى من البيت الثانى علقت الجملة الموسيقية المصاحبة على الدرحة الخامسة إلى أن جاءها الرد من درجة أعلى ومتدرجا تدرجا منطقيا حتى درجة الركوز ليفيد جواب الشرط وانتهاء الموقف

سادسا قبل الانتهاء يتوقف لحظة للتعبير عن آخر لفظين بما يناسبهما ، ولنلاحظ " مــد" الحركة الموسيقية فى كلمة " مــدة إيدك" باختلاف إيقاعها عن بقية اللحن وللتأكيد عليها أيضا باستعمال تبادل النغمات السلمى السريع فى العودة من الخامسة للأولى فى نهاية الجملة فهى خلاصة جواب الشرط وهى التى تفيد الحكم النهائى ، وقد استعمل سيد درويش نفس التكنيك لإظهار الجملة التأكيدية فى الكوبليهات التالية وهى تعبير ربك قادر فى الكوبليه الثانى ، ويالطيف يا لطيف فى الكوبليه الثالث

 

الكوبليــــــه:

ننتقل هنا إلى الفقرة التالية وهى فى الحقيقة "غنــاء" الشيالين .. ماذا يغنون؟ 

ما تياللا بينا انت وياه .. ونستعان ع الشقا بالله

واهو اللى فبه القسمة جبناه .. واللى مافيهشى ان شالله ما جه

ما دام بتلقى عيش وغموس يهمك ايه تفضل موحوس

ما تحط راسك بين الروس لا تقوللى لا خيار ولا فاقوس

 

أولا الغنائية: لحن هذه الفقرة غنائى فعلا بل ومطرب وفيه كثير من الحماس الموجود فى الكلمات فهم يشجعون بعضهم بعضا على العمل بالدعوة إلى الحركة وتحمل العناء والرضا بالرزق المقسوم والصبر ما دامت لقمة العيش قد تحققت ، هذه هى حياتهم وهذا هو غناؤهم ، فليكن غناء إذاً وطربا ما دام الرضا هو الهدف

ثانيا التأكيد اللفظى: الملاحظة لجملة شرطية أخرى فى هذه الفقرة تقودنا إلى استخدام جديد آخر فى التعبير الموسيقى ، فمن المعروف أن أية جملة مكتوبة تختلف فى وقعها على السامع إذا تم التركيز أثناء قراءتها على كلمة دون أخرى ، فمثلا إذا قلنا:

قرا تلميذ مقطعا من قصيدة

إذا ركز القارئ بصوته على كلمة قرأ فهو يعنى أن الفاعل قد قرأ ولم يكتب مثلا

فإذا ركز على كلمة تلميذ فهو يعنى تخصيص التلميذ دون غيره بالقيام بالقراءة

فإذا ركز على كلمة مقطعا فهو يعنى مقطعا من القصيدة وليس القصيدة كلها

وإذا ركز على كلمة قصيدة فقد عنى قصيدة ونفى بذلك أن يكون المقروء جزءا من قصة أو مقال ..

وهكذا استعمل سيد دروبش التركيز على لفظ معين وسط جملة لحنية للدلالة على قصدها دون سواها بالمعنى المقصود

ونلاحظ ذلك فى البيت الشرطى مادام بتلقى عيش وغموس يهمك ايه تفضل موحوس 

فنجده قد ركز على كلمة " يهمك إيه" بتصديرها فى أعلى درجة موسيقية فى الجملة ، لبيان أهميتها وكونها جواب الشرط

 

ثالثـا تماثل الجملة اللفظية والجملة اللحنية: البيت الأخير ينطوى على نصيحة تالية تنهى الحديث بما يجب اتباعه ويستحسن إضافتها فى تقرير نهائى والانتهاء بها إلى الاستقرار وهو مافعله سيد درويش فى " ما تحط راسك بين الروس .. " إلى آخر الجملة فى سلم تبادلى سريع إلى درجة الركوز ، وباسلوب يمنع تميز أى درجة عن الأخرى فالحروف تقطع أزمنة متساوية تفيد فعلا تساوى الرؤوس!

رابعا: تأكيد التأكيد: عند تأكيد المعنى السابق لفظا بتعبير لا خيار ولا فاقوس يتريث اللحن للحظتين لتأكيد الفكرة وتوضيحها

خامسا: عند انتهاء آخر حركة فى الفقرة نجده يرفع نهايتها سريعا إلى الدرجة الخامسة لتسليمها إلى بداية الفقرة الجديدة بدون توقف موسيقى للمحافظة على الجو العام للحن والتعبير عن تكدس الأشياء والحركات دون فوارق

 

معـــــــالجة المقاطع:

الانتقـال بين المقاطع:

اختفاء "اللـزم" الموسيقية: نلاحظ فى هذا اللحن اختفاء "اللـزم" الموسيقية بين المقاطع ، والحقيقة أن هذا اللحن ليس الوحيد لسيد درويش الذى ليس به لازمة موسيقية واحدة من أوله إلى آخره ، وهى سمة وردت على وجه الخصوص فى ألحانه الشعبية ولا شك أنها أنسب فى التعبير عن البيئة الشعبية ، وفى لحن الشيالين فإن هذا ينقل جو الازدحام السائد فى المحطة وضيق الوقت الشديد حيث أن الشيال ليس أمامه إلا دقائق وربما ثوان ليجد فرصة عمل عند نزول الركاب ومن ثم العمل فورا ، وقد أمعن فى ذلك فى هذا اللحن بالذات برفع غناء النهاية وتسليمه إلى أول لفظ فى المقطع التالى دون توقف كما ذكرنا فى الفقرة السابقة

تمــاثل المقاطع:

كرر سيد درويش نفس اللحن على المقاطع التالية محافظا على وحدة اللحن ، ليس فقط لكونها تعبر عن ذات القصة ولكن أيضا لكون اللحن تعبيرا فولكلوريا شعبيا لا يستقيم معه تغيير لحن كل مقطع فبهذا يحافظ على بساطته ويقنعك أن الذى يغنيه مجموعة من الشيالين وليس من المطربين ، وهو الأسلوب الذى اتبعه سيد درويش فى معظم أغانيه الشعبية

مقطع النهــــاية:

استخدام التيــمة:

فى مقطع النهاية تقول الكلمات:

قرب شيلنى شيل.. لا تقوللى كتير وقليل

عمر الشدة ما تطول .. بكرة نهيص زى الأول

هيلا هيلا  

هنا وجد سيد درويش نفسه أمام صورة جديدة ، نداء للعمل وحماس وأمل ، انتهت صور الشكوى والمعاناة وبدأ الغناء للعمل

وقد صيغت على تفعيلة جديدة ، قصيرة وذات وقع خاص ، وهو ما يحتاج إلى معالجة خاصة

نلاحظ أنه وضع جملة لحنية جديدة قصد بها: 

أولا: إظهار التفعيلة

ثانيا: تغيير الصورة

ثالثا: استخدام التيمة

وقد صاغها سيد درويش فى منتهى البساطة فى جملة صغيرة تدور معلقة على محورين صغيرين هما محور الخامسة السادسة الرابعة وهو محور غير مستقر أى ينتظر جوابا ، ومحور الرابعة الخامسة الثالثة وهو محور مستقر يعطى جواب المحور السابق ، وإذا فحصنا الكلمات نجدها تسير على نفس النمط

وعندما وصل إلى آخر لفظ ، هيلا هيلا ، وهو شعار الشيالين بالطبع جعله يغنى فى تكرار سريع موقع على نفس النغمة السابقة ليعطى إيحاء بانتهاء اللحن والموقف بتلميح لآخر معنى وصل إليه ، فهو يغنى هيلا هيـلا هيـلا هيـــلا ، هيلا هيـلا هيـلا هيـــلا ، وينتهى اللحن بهذا الشعار وهو قمة التعبير

 

الأداء التعبيرى

نأتى فى نفس اللحن لشئ آخر لم يستطع أداءه غير سيد درويش نفسه ودون غيره من الفنانين ، وليس من الممكن تصور أن باستطاعة أحد تكرار أداءه هذا أو حتى تقليده

لنسمعه يغنى ذلك المقطع مادام بتلقى عيش وغموس يهمك ايه تفضل موحوس

هذا المقطع ، كلاما ، ينطوى على سخرية واضحة ، وقد صاغه سيد درويش بطريقة تصاعدية سلمية كما ذكرنا حتى كلمة " إيه"

إنه يؤدى بصوته هذا المقطع بطريقة ساخرة أيضا ، إنه عمدا لا يتقيد بالنغمات التى وضعها هو بنفسه للكلمات ، وهو يبدل ويلون فى الأداء على هذا السلم بطريقة عجيبة بل يضيف حركات صوتية ليست فى اللحن أساسا

الواقع أن أداء سيد درويش لهذا المقطع ينضم إلى أدائه فى مقاطع أخرى من أغانيه لم يستطع أحد أداءها بنفس التمكن ، وهذا مما يضيف إلى رصيد الشيخ سيد فى مدرسته التعبيرية ، وهو وقد اتهم برداءة الصوت فإن من اتهموه لم يكن يهمهم التمييز بين نوعية الصوت ، وهو هبة إلهية لا يستطيع إنسان تغييرها ، وبين الأداء الجيد والتحكم فى النغمات وطريقة الإلقاء ، وهو ما يحتاج إلى أذن موسيقية غاية فى الإحساس ، وهى أيضا موهبة إلهية ، وبجانبها تمكن تام من قواعد الموسيقى العلمية ووعى كامل باللغة ولهجاتها وتعبيراتها ، وإذا لم يتمتع سيد درويش بصوت حسن فإنه قد امتلك الأدوات الأخرى دون شك وبامتياز ، وربما كان هذا الذى دفعه إلى معترك الموسيقى والتلحين دون تردد

لحن الوصوليين

فى غناء المجموعات على المسرح ألبس سيد درويش كل دور ما يناسبه فى الموقف الدرامى بحيث بعد عن التطريب التقليدى وجعل حركات المجموعة تعبر تماما عن موقفها ولون فى أدائها وإيقاعاتها بحيث تتفق ما تغنيه مع ما يقوله الحوار

ولحن الوصوليين الشهير " عشان ما نعلا ونعلا ونعلا .. لازم نطاطى نطاطى نطاطى " خير مثال على ذلك ، واللحن هنا لا يقتفى الكلمات فحسب وإنما يلبسها أفضل ما يمكن من تعبير إلى أدق التفاصيل .. ففى كلمة " نعلا " الأولى قفز من الدرجة الأساسية إلى الثالثة ، ثم إلى الخامسة فى الثانية ثم إلى جواب السلم وقمته فى الثالثة وهى قمة العلو .. ثم يتراجع اللحن فى التعبير عن "نطاطى" ( أى نهبط وننكس الرؤوس ) هابطا من الخامسة إلى الثالثة ثم إلى الدرجة الأساسية ثم إلى قرار الخامسة إمعانا فى بيان الهبوط إذ جعلها تحت مستوى البداية وهو ما يوحى باستعداد هؤلاء إلى الهبوط لأدنى الحضيض فى سبيل وصولهم إلى مصالحهم 

وهنا يتبادر للذهن سؤال ، هل بإمكان أحد أن يقوم بوضع لحن يصور المعنى أفضل من هذا الذى وضعه سيد درويش لهذه الصورة؟

ج- فى التأليف الموسيقى

البنــــاء الفنى عند ســـيد درويـــش

 

لم يعرض لنقد البناء الفنى عند سيد درويش إلا قلة معدودة من الموسيقيين ، وحتى هؤلاء لم تحظ دراساتهم بالنشر ، وكل ما نشر فى ذلك لم يتعد الحديث عن المدرسة التعبيرية عند سيد درويش وهى ما اشتمل على التعبير عن الموقف والشعور والجمل والألفاظ

بالنغمة والإيقاع والتصوير اللحنى.

كان هدف سيد درويش هو التعبير بالموسيقى عن كل تلك العناصر وكانت له أدواته الخاصة

وسنعرض هنا إلى تفاصيل فنية ليست بغريبة على الموسيقى الدارس لكنها ليست أيضا بمستغربة على غير الموسيقى إذ يسهل ملاحظة وتتبع آثار وبصمات سيد درويش فى البناء الفنى عند الاستماع إلى موسيقاه

 

1- الانتقال النغمى

كيف كان ينتقل اللحن من نغمة إلى أخرى قبل مجئ سيد درويش؟ كان ذلك يتم بالتدريج من نغمة إلى أخرى تالية ثم إلى ثالثة مجاورة فى السلم الموسيقى وهكذا وبينما يسيطر على اللحن جو مقام معين تم التمهيد له طويلا قبل الشروع فى الغناء فإن التنويع فى اللحن يأتى من زخارف نغمية تخرج قليلا عن المقام الأساسى ثم تعود إليه على نفس درجة الركوز

لنأخذ مثالا الأهات فى دور " كادنى الهوى" لمحمد عثمان ، يتصاعد لحن الآهات من بداية السلم للمقام الأساسى ( نهاوند) تصاعدا بالجملة الموسيقية إلى النغمة الأعلى فالأعلى إلى قمة السلم مع التلوين المقامى بين النهاوند المرصع والنوا أثر ثم النزول إلى درجة الركوز بقفلة متدرجة

بينما نجد فى آهات دور " أنا هويت " لسيد درويش تكنيكا جديدا تماما ومغايرا لكل ما جرى عليه العرف ، فهو يبدأ أولا بقمة السلم للمقام الرئيسى ( كورد ) وليس بقاعدته ، ثم يقفز قفزات بين درجات متباعدة بين قمة السلم وثالثته مشكلا جملة موسيقية ناقصة لا تحتمل التصاعد لكنها تحتمل شيئا جديدا هو " الرد " بجملة أخرى تبدأ بسادسة السلم مكونة من حركات متجهة إلى ركوز المقام وبتتابع الجملتين يبدو لنا التصوير اللحنى كسؤال وجواب ينهى الموقف الموسيقى فى لحظات

 

وفى لحن الوصوليين " عشان ما نعلا  " نجد أن النغمات المستعملة فى القفزات هى النغمات الرئيسية للسلم الموسيقى ( أى سلم ) أى الأولى والثالثة والخامسة مع استخدام التكرار الجوابى والقرارى لنفس النغمات عند الحاجة لأبعاد جديدة أكثر ، وهو ما يسمى التوافق أو الأربيج فى الموسيقى الغربية ، والنغمات الأساسية هى التى يعتمد عليها بناء التآلفات النغمية فى علم الهارمونى أو توافق الأصوات ، وبهذا الشكل بنيت الجمل على أساس هارمونى قوى يقبل تآلفات قوية وواسعة المدى

 2- الانتقال المقامى

استخدم سيد درويش انتقالات مقامية ، أى من مقام موسيقى إلى آخر ، دون العودة إلى المقام الرئيسى وأمكنه إنهاء اللحن بهذه الطريقة دون أدنى خلل بل على العكس كان شديد المنطقية فى ذلك بحسب سير الكلام الذى يعبر عنه ، وهذا التكنيك لم يعرفه ولم يقره أحد قبله ، وكان سببا فى النقد اللاذع من معاصريه من الموسيقيين ، لكنه أثبت أنه كان على حق بدليل نجاح أغنيته الشهيرة "الحلوة دى " وهى ما أطلق عليها " لحن الصنايعية " ، فقد جاءت الأغنية كلها من مقام الحجاز ثم انتهت بجملتين قصيرتين فى ختام اللحن هما أيضا عبارة عن سؤال وجواب من مقام البياتى على نفس درجة الركوز ، ولم يعد ثانية للمقام الأساسى بعد ذلك ، ويتضح هنا أهمية نظرة سيد دروبش للموقف الدرامى ووضعه فى أولوياته الموسيقية ، فبعد مقدمة وصفية عن حال الصنايعية البسطاء والاسترسال فى شكواهم طوال اللحن يأتى الختام بموقف جديد وهو الدعوة للعمل والاعتماد على الله فى الرزق وبدء الصباح الجديد بهمة جديدة تخرج بنا من الموقف الشاكى الباكى إلى الموقف الواقعى العملى ، ويخرج بنا من مقام الحجاز الحزين إلى مقام البياتى الشعبى المعبر عن الحياة اليومية ، وقد صحب التغيير فى المقام تغيير أيضا فى الإيقاع سيجئ الحديث عنه فى النقطة التالية

 

3- الانتقال الإيقاعى

مع انتقال اللحن من مقام إلى مقام فى نهاية " لحن الصنايعبة" انتقل الإيقاع إلى وحدة أطول وأبطأ  قليلا ، ولم يكن هذا جديدا فقد استخدم هذا التكنيك قبل سيد درويش للتلوين وخاصة عند الانتقال بين المقامات ، وحينما تتغير بحور الأبيات أو وزن الشعر ، ولكن الجديد الذى جاء به سيد درويش أنه أنهى العمل على الإيقاع الجديد ولم يعد إلى المذهب أو الإيقاع الأصلى ، وعند تحليل الموقف الدرامى نجد أن الذى دعاه إلى ذلك سيادة الموقف الجديد وتخطيه لكل ما سبق ، فبعد استغراق فى عرض حكاية كل يوم من مشقة وعمل دون تقدير وما يصحب ذلك من موقف نفسى سلبى تجىء الكلمات باستدراك كاستدراك شهرزاد التى أدركها الصباح فسكتت عن الكلام المباح ، فالكلمات فجأة تقول ".. الشمس طلعت .. والملك لله .. ما تشيل قدومك .. والعدة ويالله .. اجرى لرزقك .. خليها على الله " ، ومن هنا نجد سيد درويش مخلصا لمدرسته التعبيرية ويقف مع تغليب الموقف الدرامى على أى شئ آخر حتى لو أدى ذلك إلى الانتهاء بغير ما بدأ به مغايرا بذلك العرف القديم ومحطما لقوالبه الجامدة

 

4- الحوار الموسيقى

بدأ سيد درويش بناء الحوار الموسيقى مبكرا وظهر فى أدواره التقليدية فبل عمله بالمسرح الغنائى المعتمد على الحوار الشعرى ، وهنا نجد الحوار عنده حوارين ، حوار الكلام وحوار الموسيقى ، ويهمنا أن نسجل له ريادته وتفوقه فى الناحيتين

أما تناوله الحوار الشعرى بالموسيقى فلم يسبقه أحد إلى تلحين الديالوج الذى لم يظهر قبل سيد درويش ، وكان أول ديالوج هو "على قد الليل ما يطول" فى أوبريت " العشرة الطيبة"

وأما غناء المجموعات على المسرح فقد ألبس كل دور ما يناسبه فى الموقف الدرامى بحيث بعد عن التطريب التقليدى وجعل حركات المجموعة تعبر تماما عن موقفها ولون فى أدائها وإيقاعاتها بحيث تتفق ما تغنيه مع ما يقوله الحوار

فى لحن الوصوليين نجد الحوار الموسيقى واضحا فى التباين بين الجملتين الصاعدة ( عشان ما نعلا ) والهابطة ( لازم نطاطى ) بما يتماشى مع التركيب اللغوى أى الجملة الشرطية التى توحى للسامع بانتظار جواب الشرط ، وهو تكنيك مشابه لتكنيك السؤال والجواب

فى نهاية أوبريت شهرزاد موقف معقد لكنه منطقى فهناك مجموعتان لكل منهما موقف يظهر فى ذات الوقت فهذه مجموعة تهتف بشئ وتلك أخرى تهتف بشئ آخر ، فكيف تعامل سيد درويش مع هذا موسيقيا؟ لقد اختار أن تغنى المجموعتان معا ، كل فى كلامه ولحنه الخاص ، وأن يخرج اللحنين معا كلحن واحد ، فصحيح أنهما مجموعتان وموقفان لكن الحدث واحد ، فأنشأ تكوينا متباينا يمكنهما من أداء اللحنين فى نفس الوقت دون أدنى اضطراب بل فى تكامل تام ، وهو مايسمى فى الموسيقى الغربية التأليف الكونترا بونتى .. فعلها سيد درويش وهو لم يدرس حرفا واحدا من ذلك العلم العويص كما قال الدكتور حسين فوزى فى تحليله

 

5- البناء الدرامى

من بستمع إلى لحن ( عشان ما نعلا ) يدرك مباشرة أن الجمل الموسيقية هى من مستوى حكمة التعبير اللغوى ، ولا يجب أن تكون دون ذلك ، ومن الواضح أن سيد درويش كان يؤمن بما يلحنه أولا ، أى أنه لم يكن يصنع الألحان للتطريب المزاجى وإنما يهدف إلى نفس غاية المؤلف او الشاعر ويريد أن تصل الفكرة إلى الناس فى أوضح صورة ممكنة

أنا عشقت - الاستهلال

عبر سيد درويش عن الكلمة بموقف موسيقى تفوق فى أحيان كثيرة على إمكانيات الكلمة نفسها ، وإذا قرات بداية دور " أنا عشقت" ووقفت عند حد هاتين الكلمتين لن يقودك الخيال إلى أكثر من خبرهما ، ولكن انظر إلى ما فعله سيد درويش.. إنه يصور هذه الجملة البسيطة باللحن فيغنيها " آه .......... أنا عشقت! " إنه يتأوه من أولها , يتألم ويصيح من حيرته فى أعلى المقام ثم يهبط بالآه سريعا إلى قاع المقام وكانه يقول: " لقد أصابنى العشق .. إذاً فلا حول لى ولا قوة .. انتهى الأمر .." , يشعر السامع عندها بأن الملحن قد تجاوز الكلمات ليس فقط إلى التعبير بل إن هذا المطلع عندما يؤدى بهذا الأسلوب يغنى عن بقية الأغنية .. لقد حصلنا على القصة والموقف والمتوقع والحاصل والنتيجة فى جملة واحدة وبأسرع وأوضح ما يكون ! وفى الحقيقة فإن هذه الجملة هى أشهر ما فى ذلك الدور ، وإذا سمعنها تشعر وكأنك قد استمعت إلى القصيدة كلها ! وسر ذلك هو بناؤها الدرامى اللحنى

 

ومثال أنا عشقت ليس سوى أبسط الأمثلة ، فالدراما عند سيد درويش بحر عميق هادر الأمواج أحيانا ، لطيف منتشى أحيان أخرى ، وهو يتبدل حاله فيه من مبحر فى طريق طويل إلى مصارع للأمواج إلى مستمتع بالجمال إلى غارق يرجو النجاة إلى متفائل يطوى البحار إلى عائد إلى وطنه يستبد به الشوق

 

6- ضبط البنــاء اللحنى

فى مثال لحن الشيالين ، نلاحظ تربيع الجمل اللحنية مع تربيع الشطرات ، أى أن هناك 4 جمل كلامية تقابلها 4 جمل موسيقية ، وهذا كلام جديد جدا فى التلحين إذ أن دور المغنى هنا قد تقيد تماما باللحن وتمت للملحن هندسة بنائه بما لا يترك مجالا لارتجال المغنى كما كان فى السابق ، وضمن أن كل من يغنيه سيغنيه بنفس الطريقة أو ما يسمى فى العصر الحديث أسلوب Reproducibility  بمعنى القابلية للإنتاج بنفس الشكل ، وهو ما يشبه فى الصناعة وضع المواصفات للمنتج بحيث بحيث لا تختلف قطعة عن أخرى وأن تكون القطع قابلة للإنتاج مرة أخرى بنفس المواصفات

وقد بلغت دقة سيد درويش فى وضع الجمل الموسيقية أنه لا يمكن تغيير أى حركة دون أن يفقد اللحن ملامحه الأساسية  

 

وفى أدواره العشرة تعرض سيد درويش لمقطع الآهات وهو مقطع أساسى فى الدور ، بطريقة جديدة ، فقد وضع لحنا ثابتا للآهات من ناحية بعد أن كان هذا المقطع يترك تماما للمغنى لارتجاله كل مرة ، ومن ناحية أخرى فقد استخدم أسلوبا مختلفا يعتمد على القفز بين الدرجات بدلا من التدرج البطئ وتكوين الجمل بحيث تتألف من حركات متباينة تتتابع فى حوار بدلا من الاسترسال ،

وآهات دور أنا هويت خير مثال على هذه النقلة الجديدة

 

 

7- اختصار اللزم الموسيقية:

نلاحظ كما ذكرنا فى ألحان سيد درويش الشعبية  اختفاء "اللـزم" الموسيقية بين المقاطع ، وهى سمة من سمات موسيقى الصالونات رأى سيد درويش أن يتخلص منها كلما أمكن فسهل بذلك تداول ألحانه على ألسنة الجمهور 

 

 

8- استخدام التباين محل التلوين:

لا يذكر لسيد درويش أنه أنهى جملتين متعاقبتين على نفس الدرجة ، وهذه سمة من سمات الموسيقى الحديثة ، على عكس ما كان سائدا قبله من تكرار الوقوف على نفس الدرجة مرات ومرات بعد تلوين الجمل بحركات مختلفة

لحن الجرسونات

ولكن للمفارقة فقد عمد سيد درويش إلى استعمال الوقوف على درجة واحدة فى عدة حركات متعاقبة فى لحن "الجرسونات" من مقام الماجير ، وهو هنا يتعمد الوقوف على نفس الدرجة فى عدة حركات متعاقبة ، وهو لا يلون فى هذه الحركات مقاميا ولا زخرفيا بل تأتى متشابهة البناء فى لحن متكرر تقريبا .. كبف فعل ذلك سيد درويش وهو المجدد الذى التزم باستئصال الرتابة والتكرار من الموسيقى؟

الإجابة أنه فى هذه الجمل ، وهى استثنائية بالنسبة لأسلوبه ، عمد عمدا إلى منع التباين بل ومنع التلوين ، والسبب فرضه الكلام نفسه ، وكما هو الحال مع سيد درويش فإن التعبير له الأولوية القصوى ، لنتأمل الكلمات لنرى ..

إن الجرسونات يشتكون من " رتابة" عملهم , ولسان حالهم يقول أن اللى نبات فيه نصبح فيه ، وأن عرض كل ليلة من الزبائن أصبح مملا  

اهى شغلتنا كده يا افندية .. نفضل كده ....  نهاتى .. ، اللى نقوله نعيده .. كأننا بنقرا ف عدية ..

ده الجرسون منا يا بيه .. وحياتك له الجنة .. ياما بنقاسى ف خوتة ، ودوشة ومرمطة يا اخواننا ..

نفضل شايلين .. صوانى وماشيين .. زى المكوك .. رايحين جايين ..

ويبدأ سيد درويش فى عرض الصورة التى تتكرر كل يوم بتكرار نفس الجملة اللحنية من أول كأننا بنقرا ف عدية .. 8 مرات لـ 8 جمل متعاقبة إلى المقطع رايحين جايين ، حتى يصور الملل الحادث! وهى أطول جملة تكرر فيها التوقف على نفس الدرجة ليس عند سيد درويش فقط بل فى أى لحن لأى ملحن ، يكفى هذا العرض لبيان أنه تكرار متعمد استلزمه تصوير المعنى المراد من الكلام ، ولكنه عند انتهاء بيان التكرار يجد الجمل التالية تصف الصور المختلفة التى يتم تكرارها كل ليلة ، وأصبحت المواقف هنا متابينة وليس متشابهة ، فالكلمات تقول

يبقى ده يسقف ، وده يهاتى ، وده يخبط كده .. هنا يتوقف اللحن بكل صورة ، رغم قصرها الشديد ، على درجة مختلفة ، فالصورة الأولى تقف على الدرجة الخامسة ، والثانية على الأولى ، والثالثة على الثانية مما يوحى باختلاف تلك الصور عن بعضها ويدعو للعودة لاستعمال التباين

وعند الخروج من الموقفين إلى ختام المقطع تأتى الجملة الختامية كمن يتنفس الصعداء بعد طول معاناة ، منهية سرد المواقف التى تم تعليقها طويلا على درجة غير مستقرة ، وهى الدرجة الثانية ، بختام يتضمن كل درجات السلم فى تدرج ديناميكى حتى يستقر تمام الاستقرار على درجة الركوز

 

9- بساطة الألحــان

الألحـان الشعبية:

استخدم سيد درويش فى ألحانه جملا بسيطة اعتمدت أساسا على التراث الشعبى المتداول كفولكلور ، فى صياغة فنية حديثة أكسبتها روحا جديدة ، وليس أدل على بساطة الألحان أكثر من سهولة ترديدها وحفظها على ألسنة الناس ، ولم تكن هناك حاجة لمطرب محترف لأدائها فيما عدا الأدوار والموشحات ، وأفضل وصف لموسيقاه هو السهل الممتنع ، حيث لم يستطع أحد إبداع مثل ما أبدعه من ألحان من نغمات بسيطة التركيب

موسيقى الأناشيد:

يعتبر سيد درويش أفضل ملحن للأناشيد على الإطلاق ، ولم يعرف لمصر أناشيد قومية قبله ، وأناشيد سيد درويش وصفها الشاعر بديع خيرى بقوله أنها تبث الحماس فى الجبان!

وقد صاغ أناشيده غالبا على إيقاع المارش الرباعى وإن شذ عن ذلك فى نشيد قوم يا مصرى وإيقاعه من الفالس الثلاثى  ، وهذه التجربة لم تحدث قط من قبل ، لا فى الشرق ولا فى الغرب ، ولذلك وصفه بعض المحللين الغربيين بأنه فنان مجدد ومبتكر

ولعرض الخصائص الأربعة السابقة فى عمل واحد نأخذ مثالا من نشيد بلادى بلادى

نجد فى لحن هذا النشيد الخصائص الأربعة السابقة واضحة تماما وهى: ضبط البنــاء اللحنى ، اختصار اللزم الموسيقية واستخدام التبـاين محل التلوين ، إلى جانب بساطة اللحن

والنشيد عموما يختلف غيره من الأشكال الموسيقية بكونه أداة تعبير عن الجمهور ، ولذلك يلزم له تلك الخصائص الأربع بالذات وإلا احتاج لأحد المطربين ليقوم بغنائه

ولنتأمل جمل النشيد لنرى كيف تظهر تلك الخصائص 

يتكون نشيد بلادى من مقطعين رئيسيين هما المذهب والكوبليه

المذهب مكون من جملة كاملة من بيت واحد فى شطرتين هما

بلادى بلادى  .. لك حبى وفؤادى

ويتكون الكوبليه من بيتين شطرتان فى كل منهما

مصر يا أم البلاد .. أنت غايتى والمراد

وعلى كل العبـاد ..  كم لنيلك من أيادى

 

ضبط البنــاء اللحنى

إذا قمنا بعد الأزمنة الموسيقية فى أى شطرة نجدها مماثلة لعدد الأزمنة فى الشطرة المقابلة فى نفس البيت ، وأيضا لعدد الأزمنة فى الشطرات التالية حتى نهاية النشيد ، وهناك وحدتين زمنيتين فى كل شطرة من المذهب ، ونلاحظ هنا أيضا مسالة تربيع الجمل الموسيقية أى جعلها فى وحدات تتكون كل منها من 4 مازورات

اختصار اللزم الموسيقية:

لا توجد أية لزم موسيقية فى هذا اللحن

استخدام التبـاين محل التلوين:

الشطرة الأولى تقف على معلقة الدرجة الثانية ، تتبعها الثانية لتقف على الدرجة الأولى منهية المذهب على درجة ركوز المقام

الشطرة الأولى من البيت الأول فى تقف على الدرجة الثانية ، فالشطرة الثانية على الدرجة الثالثة ، فالشطرة الثالثة على الدرجة الخامسة ، فالأخيرة منهية الكوبليه على أساس المقام

بساطة اللحن

تتجلى بساطة هذا اللحن فى أن أبعاده الغنائية لم تتعد الدرجات الخمس الأولى من السلم الموسيقى ، وتبدأ الحركة الأولى بقفزة تأتى من خارج الزمن من الدرجة الخامسة للأوكتاف الأدنى وكأنها استعداد وتحضير لبدء الغناء المنظم للمجوعة مع أول دقات المارش

ويضاف إلى ذلك تكرار اللحن فى الكوبليهات ، بحيث تتغير الكلمات فقط ، وهذا الأسلوب ضرورى للتركيز على وحدة اللحن والجو العام من ناحية ومن ناحية أخرى لتسهيل ترديده على الناس

وهذا ليس فقرا من سيد درويش فإن نشيد بلادى من أعظم أعماله جميعا على بساطته ، وهذا يذكرنا بأعظم أعمال بيتهوفن فى السيمفونية التاسعة المسماة بالكورالية ، وهى الوحيدة التى تضمنت غناء ، فبعد أن أدلى كل بدلوه موسيقى وغناء جاءت قمة العمل بصوت مجموعة الكورال تؤدى لحنا اشتهر فى العالم كله ومازال يغنى للآن حتى فى أبسط الصور دون أوركسترا ويعزفه الكبار والصغار ، ولم يكن نجاح هذا المقطع ، وبالتالى السيمفونية كلها ، إلا بسبب بساطة لحنها ، فهى أيضا لم تتعد الخمس درجات الأولى من السلم الموسيقى ، ومن الملاحظ أيضا لجوء كل منهما إلى استعمال الدرجة الخامسة فى الأوكتاف الأدنى لمرة واحدة خلال اللحن!

بنى بيتهوفن سيمفونية كاملة من أجل أن يصل إلى هذه الذروة ، لكن سيد درويش ، كعادته ، دخل فى الموضوع مباشرة 

وسوف نعرض للمقارنة نشيدين من غير ألحان سيد درويش على سبيل المثال هما اسلمى يا مصر لصفر على ونشيد وطنى حبيبى لمحمد عبد الوهاب

فى نشيد صفر على هناك براعة عالية فى التلحين خاصة فى التصاعد النغمى إلى قمة ثم أخرى ثم أخرى ، ولا شك أن صفر على أستاذ موسيقى ماهر بل شديد المهارة وأنه على علم غزير بأصول الموسيقى ، ونشيده هذا من أفضل ما صيغ من أناشيد ، لكن الواقع أن هذا اللحن يحتاج إلى مهارات صوتية عالية لأدائه ، بل لا يستطيع المطرب العادى غناءه ولابد له من مطرب يتمتع بمسافات صوتية هائلة يصل بها إلى قمم اللحن

وفى نشيد وطنى حبيبى لمحمد عبد الوهاب ، كما فى معظم أعماله الوطنية ، نجده يستسلم تماما للطرب بمجرد عبور مقدمة النشيد وبالتالى سيتوقف الجمهور عن الغناء تاركا المقاطع أو الكوبليهات للمغنى ، فالغنائية الشديدة التى تتطلب أذنا موسيقية خاصة وأداء المطرب المحترف ليس لها مكان على ألسنة الجماهير

هكذا نجد أن المثالين يشتركان فى عدم قابليتهما للغناء الجماهيرى وإن اختلف السبب ، وقد أدت هذه الأناشيد فرق ومجموعات لكنها فرق مدربة تدريبا عاليا ، أما فى حالة سيد درويش فنجده قد صاغ أناشيده للجمهور لينشدها مباشرة ، فحرص على بساطة اللحن وقوته فى نفس الوقت

وبينما أدى عبد الوهاب أناشيده بصوته وهو المطرب الأول ، أو اشترك فيها بالغناء مع مجموعة من المطربين وفرق الكورس المحترفة داخل الاستديوهات كان سيد درويش يؤدى أناشيده مع الناس فى الشارع أثناء المظاهرات التى كان يقودها بنفسه

 

10- استخدام الأوركسترا

كان لسيد درويش مايسترو إيطالى يدعى سنيور كاسيو هو قائد الأوركسترا التى أدت ألحانه المسرحية حية على المسرح ، وهنا نراه قد أحل الأوركسترا الغربى محل التخت الشرقى ، وعمد إلى إدخال تراكيب جديدة متطورة من التآلفات النغمية إلى موسيقاه اتسقت مع الآلات الغربية مثل البيانو ، وقد وجد فى التكوين الأوركسترالى أداة جيدة للتعبير عن خياله الموسيقى

000

الواقع أن البحث فى موسيقى سيد درويش يتسع لأكثر مما جاء فى هذا البحث بكثير  ولكن نكتفى هنا بالقول بأنه لهذه الأسباب ولغيرها ذكرنا بداية أنه عنـد مقـارنة ألحان سيد درويش بما قبلها نجد عناصر قد اختفت وحلت مكانها عناصر جديدة أصبحت هى السمات الأساسية للألحان من بعده ، وهو بذلك قد وضع قواعد وأساليب جديدة فى التلحين

 

بحث وتحليل:  د.أسامة عفيفى